عرفت ثنائية “الاسلام والغرب” حضورا متجددا في العقود الأخيرة؛ منذ تصاعد المد الاسلامي أو ما اصطلح على تسميته بالصحوة الاسلامية، ومازال هذا الاهتمام بهذه المقولة “الاسلام والغرب” متجددا في الاوساط العلمية ووسائل الإعلام المختلفة وبجميع لغات العالم في أوروبا والأمريكيتين وآسيا، وهذه المقولة الثنائية أخذت حظها من التداول العلمي والإعلامي حتى عندنا في البلاد الإسلامية، لكن عندنا لا يوجد من قام بتحليلها أو إعادة النظر في إشكاليتها، وهذا ما يدعونا إلى تحليلها والنظر في مدلولها والغاية منه.
ولعل أول ما يلفت نظرنا في هذه الثنائية هو هذا التقابل غير المشروع الذي جمع بين الإسلام كدين وبين الغرب كرقعة جغرافية، لأن التقابل عادة ما يكون بين المختلفات التي يجمعها جنس واحد، كأن نقارن بين الأسد الإفريقي والأسد الأسيوي مثلا، فقد كان الأجدر بمن وضعوا هذه الثنائية أن يضعوا الإسلام مقابل المسيحية، أو بين الغرب والشرق وليس بين الإسلام والغرب، وهذا يدفعنا إلى طرح السؤال لماذا عمد الغرب إلى صياغة السؤال بهذه الثنائية التي لا تستقيم؟؟ ولماذا لا تشعر النخبة وعموم الناس بهذه المفارقة التي جمعت بين الاسلام والغرب؟ فلو أننا وضعنا ثنائية أخرى كأن نقول: “الإسلام والشمال” أو “الغرب واليهودية” لسمعنا أصواتا كثيرة تناقش مغزى هذه الثنائية وماذا يقصد بها؟ وما الداعي إليها؟
لاشك أن لتكرار العبارات دورا في التعود عليها وتبنيها في التداول الاجتماعي بين الناس، لكن نحن في مقام ثقافي وعلمي بمعنى أننا نتباحث مع النخبة العلمية والثقافية التي تسبر غور المقولات وأفكارها ولا تتعاطى معها بمثل ما يتعاطى معها عموم الناس، ولهذا يمكننا القول: إن الحمولة الدلالية والرمزية لعبارة “الاسلام والغرب” وكذا الخلفية الفكرية والبطانة الوجدانية الثاوية فيها، ليست نتيجة لمجرد تكرارها وكثرة استخدامها في منابر الفكر والثقافة والإعلام .. وإنما هو نابع من هاجس الخوف القديم المتجدد الذي يشي بعمقه في نفسية الرجل الغربي أو لنقل العقل الغربي، الذي يسعى منذ بداية عصر الأنوار إلى يومنا هذا أن يبقى محافظا على ريادته وقيادته للعالم، وبالتالي فهو يرى في الإسلام المحرك الوحيد للمسلمين الذين لحقتهم الهزيمة والهوان بعدما انحرفوا عن تعاليم الإسلام في بناء النهضة وتحقيق التفوق الحضاري، ولهذا فالغرب حريص كل الحرص أن تبقى عينه مفتوحة على الإسلام ويقصد المسلمين في علاقتهم بدينهم الإسلامي وما يمكن لهذه العلاقة أن تحدث من طفرة نهضوية أو تطور حضاري يزعزع ذلك التفوق الحضاري الذي أحرزه الغرب خلال أزيد من قرنين من الزمن .. لأن أي خلل يحدث سوف يقلب الموازين وتعود سيرة الإسلام والمسلمين الأولى، التي هي حاضرة في المخيال الغربي وخاصة عند نخبته السياسية والفكرية، التي ما فتئت تذكر بعضها بعضا بخطورة أن يتطور العرب والمسلمون ويحققوا تقدمهم العلمي والتكنولوجي مع إحيائهم للقيم الاسلامية الصافية كما هي في الكتاب والسنة، لأن ذلك ببساطة يعيد إلى العالم سيادة العالمية الإسلامية.
وإذا عدنا إلى مدلول كلمة الغرب في مخيال العربي والإسلامي فإننا لا نجدها محملة بتلك الحمولة التي وجدناها في المخيال الغربي عن الاسلام، فكلمة “الغرب” لا تحمل هواجس الخوف أو الخطر رغم أن بلاد المسلمين استعمرت من طرف الأوروبيين أي “الغرب” ورغم تعرض المسلمين لأنواع من الاضطهاد من طرف الغربيين إلا أنهم لا يرون في الغرب أي هاجس سلبي تجاهه يدفعهم إلى التذكير بخطورته، ومن يقرأ كتاب “قال قادة الغرب دمروا الاسلام وأبيدوا أهله” يتأكد له هذا المعنى الذي نتحدث عنه.
فالغرب في مخيال العرب والمسلمين هو التطور التكنولوجي والعلمي، وهو بلد الحرية والعدل الاجتماعي وحسن التنظيم الإداري والسياسي، وهو بلد الرفاهية لمن يريد عيشها، ولهذا نرى الكثير من العرب والمسلمين يحلمون بالذهاب والعيش في الغرب حتى أولئك الذين تصفهم وسائل الإعلام الغربية بالمتطرفين وهم على أرضها.
وهكذا يصبح الغرب هو الأستاذ والمعلم لكل العرب والمسلمين، فإذا أرادوا العلم فعليهم بالذهاب إلى الغرب، وإذا أرادوا حسن التنظيم الاداري والسياسي فعليهم بالغرب، وإذا أردوا الأخلاق المرتبطة بالتنوير الحضاري فعليهم بالغرب، فالغرب هو مصدر النعم والخيرات التي لا تعد ولا تحصى.
والخبراء الغربيون لما عملوا على نشر مقولة “الاسلام والغرب” يدركون هذه الحقائق المتعلقة بمدلول كل من “الغرب” في المخيال العربي والإسلامي، وهم لذلك لا يجعلون المسيحية في مقابل الاسلام، لأن حينئذ يتحول النقاش ولا يؤدي غرضه المنشود من وراء فتحه، لأن الحوار في هذه الحالة يأخذ أبعاد مقارنة بين دينين من حيث طبيعة المعتقد وطبيعة التشريع، وحتى طبيعة الأخلاق والقيم المراد نشرها في المجتمع، وكل هذا لا يخدم الأهداف الاستراتيجية التي يسعى خبراء الغرب إلى تجسيدها سواء داخل المجتمعات الغربية الغارقة في الشهوات والملذات، أو داخل المجتمعات الإسلامية بفعل الغزو الفكري والثقافي مؤسساته المتنوعة الذي تعمل مراكز البحث والرصد من خلاله منذ عقود من الزمن، وقد حققت منه الكثير رغم محاولات الممانعة التي تتبناها بعض القوى الاجتماعية المحافظة في البلاد الاسلامية.
أما إذا انتقلنا إلى الكيفية التي يعي بها الفكر الغربي العلاقة بين “الاسلام والغرب” فإن الجواب الموضوعي نجده عند المفكر الاجتماعي الفرنسي بيرتراند بادي في دراسة له ضمن كتاب جماعي يحمل عنوان “الآخر”
وقد كانت دراسته تحمل عنوان “الغرب والعالم الاسلامي” يقول فيها: نحن نتحدث دائما عن الآخر، خصوصا عندما لا نحبه أو عندما نخافه أو عندما يكون فاتنا ساحرا … إن هذا النوع من النظرة الاجتماعية للغيرية أمر تقدمه الملاحظة، فلا يمكن أن يغيب لا عن الباحث الاجتماعي ولا عن المؤرخ ولا عن رجل السياسة، إنه يكشف عن موقف، ويساعد بادئ ذي بدء على اكتساب فهم أفضل عن الشخص الذي يتكلم، عن طريقته في التفكير وأسلوبه في العمل والغيرية من هذه الزاوية يمكن اعتبارها “غيرية متخيلة” أو وهمية، وهذا التعريف لـ “الآخر” الذي يجعل منه مصدرا للسلوك، يتدخل بصورة أكيدة في سلوك الفاعلين، إنه يخلق وضعيات مصنوعة من التوترات والنزاعات، كما يخلق في الوقت نفسه مناسبات تستغل لتأكيد الذات وتبرير التصرفات وفرض الارادة، أو الظهور بمظهر الضحية كما يحدث أحيانا، ففي هذا المستوى من التحليل يمكن الحديث بكل اطمئنان عن غيرية استراتيجية، غير أن هذه الأخيرة التي تشيدها تمثلات وافتراضات ومصالح لا يمكن النظر إليها مع ذلك كغيرية مخترعة ابتداء، ذلك أنها تتغذى من قراءة لتاريخ عزل بصورة تعسفية عن تواريخ أخرى، تاريخ يضم مع ذلك مجموعة من التجارب والحوادث والمنشئات الفكرية والمؤسسية التي لا يمكن اعتبارها كلها غير ذات أهمية.
لقد حاول هذا المفكر بيرتراند بادي أن يقول لنا بصراحة أن العلاقة بين الاسلام والغرب توجهها إرادة القوة وحب السيطرة، وهذه الإرادة تتغذى من تاريخ طويل من الحروب والصراعات التي سجلها التاريخ، حتى أصبحت تمثل بالنسبة للغرب عقدة من الإسلام.
ومن سلف ذكره يمكننا أن نقف على حقيقة كبرى، أن الغرب عندما يتحدث عن الاسلام والغرب إنما يتحدث عن “الأنا” التي تبحث عن توطيد مصالحها عند “الآخر” الذي يمثل الاسلام بما يحقق السيطرة عليه.
محمودي رابح
===