الحنين إلى الجزائر الممزوج بالانشطار الروحي
المحلي ثقافي ملحق

الحنين إلى الجزائر الممزوج بالانشطار الروحي

هذا العمل الأدبي الثامن للروائية الفرنكوجزائرية نينا بوراوي mes mauvaises pensèes تخيلاتي السيئة الذي قامت بترجمته إلى اللغة العربية أمينة غصن، وقد نالت الروائية به جائزة رينود الأدبية سنة 2005 تقول عنه الكاتبة : “أزلت النقاب عن جزء كبير من ذاتي من دون الاستسلام لأية محرمات، وعبرت عن علاقتي بأمي”، ولهذا جاء عملها الروائي هذا يشبه إلى حد كبير أدب السير، فنراها تكثر من استعمال عبارة “الأنا” وكأنها تريد إزالة اللثام عن حياة الصبا التي بقيت مشدودة إليها، وبقي حبها للجزائر مغروسا في أحشائها، ولم تستطع نسيانه أو نسيان ذلك الألم الذي مازال يعتصر قلبها رغم مرور عقود من الزمن، حيث تبوح بذلك في لقاء متلفز على قناة “آرتي” الأوروبية فتقول: “لم أختر يوما مغادرة الجزائر، انتزعوني منها، كانت عالمي، وكان هذا الانتزاع أليما للغاية، أرغمتني الظروف على تعلم كيفية العيش من جديد في فرنسا، وكأنني ولدت مرتين” وهذا الحنين إلى الجزائر تحول عندها إلى نوع من الاعتزاز ببلدها الحقيقي أين نشأت وكبرت وسحرتها مناظره الطبيعية وخاصة شواطئ تيبازة وطريق الكورنيش الرابط بين حيها بباب الوادي إلى تيبازة مرورا ببيرار والشواطئ الأخرى التي مازالت مفتونة بها إلى اليوم، حيث تقول: “لدي اعتزاز تلقائي بالجزائر، ولم يفرضه علي أحد وهو أكبر بكثير من اعتزازي بفرنسا، لكنها وجدت سلوانها في الكتابة من خلال استحضار ذلك الماضي البعيد لتعيد صوره إلى مخيلتها، لتحياه مرة أخرى فهي متيمة به “فالكتابة هي التي سمحت لي بمعاودة زيارة الجزائر”.

حب الروائية لبلدها الجزائر دفعها إلى الاستغراق في سرد الكثير من التفاصيل بنوع من “نوستالجيا” كأنها طفلة انتزعت من حضن أمها، ولهذا فهي تعلل تميز واختلاف مشاعرها عن بقية الفرنسيين الذي ولدوا في الجزائر وغادروها للأبد متجهين إلى فرنسا، “فأنا لست من الفرنسيين الذين ولدوا في الجزائر، ولكن قلبي يعتصر كلما أبحرت المراكب من خليج الجزائر باتجاه مرسيليا ونيس والبندول، فأنا أيضا كنت أود أن ألوح بمنديلي، وأن أرى الشاطئ يبتعد، في حين أتحول إلى نقطة صغيرة تطفو فوق الماء كظل أبقي وأعي أن فقدت تاريخي وحكايتي، كل هذا العنف الفاضح والمرئي أن تهجر وترى نفسك هاجرا”.

هذا الشعور بالانشطار والتشظي لأنها فقدت تاريخها وحكايتها، بقي ملازما لنينا بوراوي، بل أصبح ملازما لياسمينة بوراوي لأن اسم “نينا” هو اسم الدلال الذي كان يطلقه عليها أفراد عائلتها وهو اختصار لاسم ياسمينة، ولعل هذا ما جعلها توقع به جميع مؤلفاتها ومقالاتها، لأنه جزء من تاريخ حياتها الذي بقيت تحن إلى عبقه الجزائري، ويبدو أنها كانت تعيش صراعا داخليا في بحثها عن ذاتها، هل هي جزائرية أم فرنسية؟؟ هل هي أوروبية أم إفريقية؟؟ هل هي محافظة أم منفلتة؟؟ كل هذه الاسئلة بقيت غير محسومة في عقلها، بل أصبحت تراودها في كل موقف .. وفي كل محطة من حياتها.. صعب أن يعيش الانسان بهذه الثنائيات المتناقضة والمتشاكسة.. وهذا ما جعل أفكارها وتخيلاتها السيئة تحضر باستمرار في عملها الروائي هذا.

“لقد جئت لأن أفكاري سيئة أخرى تحاصرني، تلتهم روحي، داخل رأسي شخص آخر لا أعرفه، يحمل بيده مطرقة تزعجني طوال الوقت .. أود خنقه بيدي، اكتشفت أن أفكاري السيئة هي التي تطارد من أحبهم، أراها في أجسادهم ووجوههم وكلامهم وكل ما يفعلونه .. هكذا يا عزيزتي يبدأ تاريخ القتلة، استغرقت الليل حتى الصباح، أحاول التخلص مما في ذهني أعاهد نفسي ثم أتراجع، خائفة جدا مما أتحول إليه، تماما مثل الفيلسوف الذي طعن زوجته وظل معتقدا أنه كان يحلم، فأنا لم أعد أسيطر على شيء، وأخشى أن تصبح جرائمي أنصاف أحلام وأنصاف أشباح”. ويبقى السؤال، هل هي أفكار سيئة أم تخيلات سيئة؟؟ فالأولى جزء من الواقع الذي تعيشه الروائية، وتعيش مواقفه بين الإقدام أو الإحجام .. أما الثانية فهي مجرد صور خيالية تجتاح مخيلة الأديبة وتحدثها عن رغبات أو إرادات، تجعلها منقسمة إلى شطرين الأمر الذي تولدت منه تلك الرمزية في الحكي والسرد دون انتظام في مسلكها الفني أو الزمني.

والانشطار الذي تحياه صاحبة التخيلات السيئة، دخل عليها أيضا من باب الشهوات والملذات “أنا وحيدة مع جسدي الذي يشغلني وأضيع بسببه شبابي، فأنا لكثرة ما حيت جسدي فقدت شبابي، كما فقدت حقدي وشهواتي الجامحة والمجنونة، واكتفيت بالحياة” ورغم أنها تؤمن بأن وراء كل رواية شهوة، فكأن الشهوة هي ملهمتها في الكتابة والابداع، “كل رواية تأتي من شهوة على ما أظن”.

لكن سرعان ما تتدارك ذلك لتؤكد أن التشظي الثقافي حاضر بقوة في كتابتها الروائية، حين تصرح: “تخجلني كتابتي المنفلتة من الضوابط، الكتابة التي تغيب عنها المعايير الاخلاقية ومثلها المعايير الجليلة” هنا يتوقف القارئ مليا ليسائل الكاتبة عن قصدها بالمعايير الجليلة، هل هي التعاليم الاسلامية التي تلقتها في صغرها من العائلة الكبيرة أو تعلمتها من المدرسة، خاصة اذا علمنا أن نينا بوراوي لم تغادر الجزائر العاصمة إلا وهي ابنة الرابعة عشر ربيعا، في مثل هذا السن تصبح الفتاة واعية بأفكارها وأخلاقها وتقاليد وعادات مجتمعها، “أنا من يمكنها أن تكتب عن الفرح والشهوة والجمر والدماء والاحتقانات بغير أن أجد كلمة عن الجنس ومشهدياته التي هي مشتركة” وتحاول نينا بوراوي التهرب من الإفصاح عن معتقداتها ومكنونات نفسها، لتقارن كتابتها في هذا المجال بكتابات غيبر الذي تعده الكاتب المفضل لديها وتبرر ذلك بقولها: “لن يكون بإمكاني أن أكتب مثله، لأن ليس لي مثل هذه القوة، فكتابة “غيبر” مثيرة وهو عندي الكاتب الوحيد الذي ينقل شهواته بغير سفاهة، فلربما كانت الإثارة في الأسلوب وهو ما لا اعرفه، لأني لم أقرأ من الأدب “الإيروتيكي” إلا ما كتبه “غيبر”، وكأنه الكاتب الوحيد في حياتي”، ويبقى هذا التبرير غير كافي في تعليل عدم انغماسها في سرد المشاهد الإباحية كما يفعل جل الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية، خاصة وأنهم يكتبون لمجتمع متحلل من ضوابط الحياء الأخلاقي فيما يتعلق بمثل هذه الطابوهات.

ويبقى هذا العمل الأدبي جدير بالقراءة رغم التناقضات التي يحملها، وما توحي به التخيلات السيئة التي أباحت بجزء منها ياسمينة بوراوي.

محمودي رابح