الفرنكفونية امتداد للثقافة الفرنسية أم فرض لهيمنتها
ثقافي

الفرنكفونية امتداد للثقافة الفرنسية أم فرض لهيمنتها

تعد الفرنكفونية تيار ضرب مكانة اللغة العربية كلغة قومية وحدت ربوع الوطن العربي وكانت كفيلة بخلق قوة متزنة ومتحدة تحت لواء لغة الضاد، لكن ما فتئت هذه القوة تتلاشى قبيل الحركات الاستعمارية التي شنتها دول الغرب على جل الوطن العربي خلال سنوات الستينات والخمسينات من القرن الماضي، خاصة وأن الحركة قد عرفت تأثر فئة كبيرة ممن كانوا يتكلمون لغة الضاد حيث تنكر الكثير منهم لها واحتمى بقبعة الفرنكفونية بل هناك حتى من أبدى عدوانه للغة الأم ووصفها بأنها لغة تخلف.

^ ل.ع

 

ولعل الاسئلة التي يتبادر للكثير منا طرحها هي كيف لهذه الحركة التي سميت بالفرنكفونية أن يكون لها كل هذا التأثير على الفكر والثقافة العربية لدرجة الحاد الكثيرين من العرب بلغة الضاد واعتناقهم لهذه اللغة الفرنكفونية؟ كيف نشأت وما هي خلفية اعتناق العرب بالمشرق والمغرب لهذا التيار؟بالرجوع الى مصطلح الفرنكفونية الذي دخل على معجم اللغة العربية فهو مصطلح من المصطلحات الجديدة التي ظهرت أول مرة في القرن 19 م وهي منظومة مؤسسية تنظم العلاقات بين البلدان التي يجمعها استخدام اللغة الفرنسية، وقد أنشئت مؤسسة الفرنكوفونية في عام 1970 في نيامي بمبادرة من آبائها المؤسسين، من أمثال ليوبول سيدار سنغور والحبيب بورقيبة وحماني ديوري ونورودوم سيانوك، وذلك بموازاة إنشاء وكالة التعاون الثقافي والتقني التي أصبحت في ما بعد الوكالة الحكومية الدولية للفرنكوفونية عام 1998 ثم المنظمة الدولية للفرنكوفونية عام 2005 وتهدف المنظمة لترويج اللغة الفرنسية وتعزيز التعاون بين الدول والحكومات الأعضاء البالغ عددها 88 دولةً وحكومةً حيث صيغ هذا الهدف رسمياً في ميثاق الفرنكوفونية الذي اعتمده مؤتمر قمة هانوي عام 1997 ونقحه المؤتمر الوزاري عام 2005 في أنتاناناريفو وهذا ما سنفصل فيه في الحديث عن النشأة التاريخية للفرنكفونية لاحقا .ولا شك أن الفرنكفونية وبعد تأطيرها من قبل الأعضاء المؤسسين لها قد تعدت أن تكون بالمفهوم البسيط مجرد التحدث باللسان الفرنسي، فقد أصبحت الفرنكوفونية اليوم إطارًا للتعاون بشأن القضايا العالمية مثل المجال الرقمي والمساواة بين الجنسين والقضايا الاقتصادية وتنفذ المنظمة الدولية للفرنكوفونية اليوم التعاون المتعدد الأطراف الفرنكوفوني خدمةً لمصالح أعضائها البالغ عددهم 88 دولةً وحكومةً عضوًا يشملون 54 عضوًا بحكم القانون و7 أعضاء منتسبين و27 عضوًا مراقبًا وقد اصبح عمل المنظمة الدولية للفرنكوفونية يرتكز اليوم في المجالات الأربعة الأساسية التالية، وهي ترويج اللغة الفرنسية والتنوّع الثقافي واللغوي، ترويج السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، دعم التعليم والتدريب والتعليم العالي والبحوث ويقع مقر المنظمة الدولية للفرنكوفونية في باريس ولها 11 بعثةً خارجيةً وتخضع لسلطة الأمانة العامة، وتعمل أربع بعثات منها في المنظمات الدولية الشريكة و7 من أجل المناطق الجغرافية وبحسب هيكل المنظمة فان هذه الاخيرة يرأسها الأمين العام، وهو الناطق السياسي باسم الفرنكوفونية على الصعيد الدولي حيث يترأس المجلس الدائم للفرنكوفونية، كما له ان يعين مديرًا يكلّف بتنفيذ التعاون الحكومي الدولي المتعدد الأطراف وتسييره وإدارته وإدارة الشؤون الإدارية والمالية، وقد خصصت المنظمة يوم 20 مارس من كل سنة يوم الاحتفال باليوم الدولي للفرنكفونية في جميع أنحاء العالم وهو التاريخ الذي يتوافق مع إنشاء وكالة التعاون الثقافي والتقني من سنة 1970، التي أصبحت المنظمة الدولية للفرنكوفونية فيما بعد.

وبالحديث عن النشأة التاريخية للفرنكوفونيّة فقد أنشأت أول مؤسسة فرنكفونية سنة 1960 من قبل خمسة عشر دولة انعقد مؤتمر وزراء التربية القوميّة للبلدان الّتي تشترك في استخدام اللّغة الفرنسيّة، واتّخذت من داكار مقرّا لأمانتها، واقترح رئيس النّيجر حماني ديوري ورئيس تونس الحبيب بورقيبة، ورئيس السّنغال سنغور سنة 1961، الجمع بين الدّول المستقلة حديثًا والراغبة في متابعة العلاقات مع فرنسا على أساس الصّلات الثّقافيّة واللّغوية وقد تبعت ذلك سلسلة من الإجراءات الّتي شكّلت أساس الفرنكوفونيّة المؤسّسيّة واتّضح أنّ فرنسا كانت متردّدة للغاية للانخراط في هذه المغامرة الفرنكوفونيّة ويبرّر بعض المؤرّخين هذا التّردد بالإشارة إلى أنّ فرنسا، الّتي لا تزال في طور إنهاء الاستعمار، تخشى أن يتمّ اتّهامها بالتّدخّل في السّياسات الدّاخليّة للدّول المستقلّة حديثًا، وتم ظهور الفرنكفونية حسب المؤرخين عبر مراحل المرحلة الأولى من 1960 الى 1969 فيما نشأت الفرنكوفونية في البداية، أثناء حركة التّحرّر من الاستعمار، بمثابة مجتمع متوطّد باللّغة وهي مجموعة يحدّدها الماضي الاستعماريّ دون الرّابط الاستعماريّ، المرحلة الثّانية السبعينات والثّمانينات هنا تزايدت، الانتقادات ضد الطّابع الاستعماريّ الجديد للفرنكوفونيّة، ممّا دفعها إلى إعادة صياغة خطابها بطريقة مختلفة جذريّا والمرحلة الثّالثة بدأت أواخر التّسعينات وقد ظهرت كما لو أنّها استمرار للمرحلة السّابقة، فباستثناء الفروق البسيطة الّتي بلورتها القيم المعلنة وأسّستها خلال المرحلة الثّانية، فإنّ المنظمة الدّولية OIF قد أنشأت الفرنكوفونيّة وعرّفتها بكونها فضاء للتّنوع الثّقافي ويتأكّد التخلّي عن المعيار اللّغوي من ناحية، فتضاف موضوعات جديدة للأولى، وتتكثّف حولها وتتمّ إضافة التّنمية المستدامة وحوار الثّقافات إلى الدّيمقراطيّة والسّلام من ناحية أخرى.

ويبدو جليا ان للفرنكفونية ركائز اعتمدت عليها في بسط هيمنتها خاصة وان سنوات السّتّينات ظهرت فئات كثيرة من المجتمع من تتحدث اللغة الفرنسية كنتيجة حتمية لما بعد الاستقلال بعد الحرب في وقت واصلت فيه فرنسا تعزيز نظامها الدّبلوماسيّ الثّقافي لتخصّب الفرنكوفونية، من خلال استثمار بناء علاقات جديدة مع المستعمرات السّابقة مرتكزة على تعاون متعدّد الأوجه، بما في ذلك التّعاون العسكريّ والتّعاون النّقديّ والمالي والتّعاون الاقتصاديّ والثّقافي الّذي تجسّده القمم الإفريقيّة وقمم الفرنكوفونيّة هذه الاخيرة التي تناقضت في علاقة البلدان الفرنكوفونيّة مع فرنسا، حيث وضعت فرنسا في القمّة باسم القيم الإنسانيّة المزعومة وحوّلت العلاقة، في إطار المنظّمة الدّوليّة للفرنكفونيّة، إلى علاقة هرميّة ممّا أدّى إلى استمرار التّبعية الثقافيّة للمستعمرات الفرنسيّة السّابقة من خلال اللّغة.

وفي الاخير ورغم أن الفرنسيّة قد فرضت نفسها منذ نشأتها، على اللّغات الأخرى وفرض المتحدّثون بها لغتهم تاريخيّا لكن الحقيقة أنّ فرنسا فشلت في وأد اللّغة العربيّة في بلدان المغرب العربيّ، وسيكون من باب المكابرة الوطنيّة الجوفاء الادّعاء أنّها لم تحرز نجاحات هائلة في مجال تحقيق هدف الاغتصاب الثّقافيّ واللّغوي في هذه البلدان ويكفي أن نعرف أنّ اللسان الفرنسيّ مازال، حتّى الآن، لسان الإدارة والتّعليم ولا أحد له أن ينكر ذلك .