تقطير ماء الورد.. حرفة تقليدية منذ أجيال مهددة بالاندثار بالبليدة
وطني

تقطير ماء الورد.. حرفة تقليدية منذ أجيال مهددة بالاندثار بالبليدة

ريبورتاج/ قبوب سعاد

تعتبر حرفة تقطير ماء الورد أو الزهر من أعرق وأقدم الحرف التقليدية بولاية البليدة، التي ارتبط اسمها بالورود والأزهار ولقبت بمدينة الورود، أين كانت تكتسي طابعا تجاريا غير أن هذه الحرفة مهددة بالاندثار بسبب نقص المواد الأولية المتمثلة في صعوبة الحصول على أنواع الورود والزهور، وهذا ما أجمع عليه الحرفيون القلائل الذين يزاولون هذه الحرفة.

قال أحد الحرفيين محمد عبد الله، الذي يمتهن هذه الحرفة رفقة زوجته أن بريقها بدأ يتلاشى مع مرور الزمن بسبب عزوف الشباب عن تعلمها من جهة ونقص المواد الأولية، أين كانت في الماضي شوارع وبساتين البليدة تعج بمختلف أنواع الورود والزهور على غرار الياسمين الذي كان منتشرا خاصة ببلديتي الشفة والشبلي والعفرون، إلا أنها اليوم اختفت بشكل شبه كلي ما أثر على صناعة ماء الياسمين المقطر الذي يعد من أكثر الأنواع رواجا، وأضاف المتحدث أنه توارث الصناعة عن أجداده أين يقوم بصناعتها داخل بيته المتواضع بوسط مدينة الدويرات العريقة، أين يقوم بجمع مختلف انواع الزهور على غرار الإكليل الجبل من اعالي الأطلس البليدي، حيث يقوم باستخلاص ماء الورد من الماء الطبيعي المكثف المستخرج من جهاز التقطير الذي هو عبارة عن وعاء نحاسي كبير يوضع على النار لمدة لا تقل عن أربعة ساعات تكفي لتبخر الماء وتحوله إلى قطرات ماء معطرة على حسب نوعية الورود أو الزهور.

 

مؤسسات ناشئة تعيد للزيوت الأساسية مكانتها

تشتهر مدينة البليدة بكثرة وتنوع النباتات الزهرية والعطرية المنتشرة على مساحة سلسلة الأطلس البليدي، ما جعل تقطير النباتات واستخلاص الزيوت الأساسية تبرز وتزدهر بالمنطقة منذ القدم، وهي اليوم تعرف انتعاشا لافتا بفضل اهتمام شباب خاصة جامعيين، وجدوا في هذه المهنة دخلا وآفاقا واعدة والذهاب الى تأسيس مؤسسات ناشئة تنشط في هذا المجال.

ومن أهم المؤسسات الناشئة نجد شركة حميد شيخي لمواد التجميل بوادي العلايق، التي تسير بخطى ثابتة محاولة تنشيط صناعة الزيوت الأساسية والطبيعية، وفي ظرف سنتين استطاعت أن تُنتج 40 نوعا من الزيوت الأساسية والنباتية، حتى أن حجم المادة الأولية التي تستخلص منها هذه الزيوت وصل أحيانا إلى 2 طن يوميا، ورغم الخطوات الكبيرة التي قام بها المهندس في العلوم الزراعية حميد شيخي لتحقيق حلم الطفولة بالعمل في مجال استخلاص الزيوت من النباتات، فإنه يشعر بأن عملا كبيرا ينتظره لتطوير هذا المجال من خلال إنتاج سلع ذات جودة لتكون البديل في السوق، حيث يستعمل في ذلك جهاز تقطير ومسخن للماء وبعض اللواحق، وكلها مصنعة محليا، وتساعده محافظة الغابات في توفير النباتات التي يقوم بتقطيرها مثل الكاليبتوس والشيح والخزامى.

وأورد صاحب المؤسسة، أن الزيت الأساسي هي ذلك الجزء العطري في النبات الطبي ولإنتاج واحد لتر منها نحتاج أحيانا لأطنان من النبات، فإنتاج كيلو غرام من الزيت الأساسي للضرو نقوم بتقطير 34 قنطارا من هذا النبات، والزيت النباتي أو الطبيعي غالبا ما يتم استخلاصه من البذور بطريقة تقليدية بعصره، أما الزيت الأساسي فيخرج من الأوراق والبذور بالتقطير ولديها قيمة علاجية وشفائية أكثر.

 

فريحة.. رغم كبر سنها إلا أنها متمسكة بتقليد متوارث

تواصل الخالة فريحة البالغة من العمر 88 سنة تقطير الأزهار يدوياً منذ أربعة عقود، نشأت على تتبع طريقة تجهيز والدتها الأزهار وتحضيرها كي تصبح مهيئة لعملية التقطير، علماً أن والدتها كانت تعلمت هذه الحرفة التقليدية بدورها من جدتها، وهي الحرفة التي تحافظ عليها العائلة حتى بعدما انتقلن إلى بيوت أزواجهن، وصرن يشاركن في يوميات جميلة تعبق بروائح الأزهار، ثم جعلن مع مرور الزمن الحرفة مهنة لكسب الرزق.

 

القطار والطنيجرة أهم وسيلتين للتقطير

مع حلول الربيع يبدأ التحضير لممارسة هذه الحرفة، عن طريق قطف الأزهار في الفترة مطلع مارس إلى نهاية ماي، ثم تشرع النساء في التقطير الذي لم تتغير طريقته بمرور السنوات، وتحوّل صناعته إلى المعامل، وتتميز التقنية التقليدية في تقطير الأزهار والورد بأنها معقّدة وبسيطة في الوقت ذاته، وتستخدم فيها وسائل تقليدية في مقدمها أداة القطَّار، وتتطلب انتظار ساعات كي تتحوّل أوراق الأزهار والورود إلى بخار يصبح بدوره قطرات ماء ورد وماء زهر مركّز ومكثّف، وتعتمد عملية تقطير الأزهار على استخدام “القطّار” الذي يتألف من جزأين؛ الأول سفلي يطلق عليه اسم “الطنيجرة” التي توضع فيها باقات الأزهار، والثاني علوي يطلق عليه “الكسكاس” وهو إناء يحتوي ثقوباً كثيرة، ويتضمن “القطَّار” فتحتين مرتبطتين بأنبوبين، يستخدم الأول في استخلاص ماء الورد وإيصاله مباشرة إلى مكان تكثيف البخار، أما الأنبوب الثاني فيربط بالماء الخاص بالتبريد كلما وصلت الكمية إلى درجة غليان قصوى.

ويحتوي “القطّار” أيضاً على تجويف مقعّر من الداخل يسمى “رأس القطار”، ويشبه القبة من الخارج حيث يتكثف البخار فيه للحصول على قطرات ماء الورد المكثّف، وتوضع في “القطَّار” مجموعة من الأزهار المقطوفة حديثاً قبل أن تذبل، ثم على نار هادئة بدرجة الغليان، وللتخلص من الماء الساخن من “القَطَّار” يحتاج إلى حرفية عالية، إذ يجب أن تحرص المرأة على تجديد الماء المفقود بفعل الغليان والتبخّر، فإضافة ماء بارد يساعد على غليانه مجدّداً، واستخلاص كميات أكبر من ماء الورد.

 

خطوات التقطير يجب أن تكون دقيقة

خطوات التقطير الأولى، دقيقة يجب تنفيذها بإتقان باستخدام أدوات مصنوعة من مادة الألمنيوم، ثم ننتقل بعدها مباشرة إلى المرحلة الثانية من العملية التي تتمثل في تجميع الماء الذي نحصل عليه من جهاز التقطير قبل أن يتحلل في الهواء، ووضعه في زجاجات تغلق بإحكام كي تحافظ على النكهة الطبيعية الخاصة، والزجاج يساهم في الحفاظ على رائحة الأزهار الزكية لمدة طويلة جداً، واستخدمها أفضل بكثير من وضعه ماء الورد المقطّر في أوانٍ بلاستيكية، وبين أنواع الأزهار المستخدمة في التقطير الياسمين والبنفسج ونبات العطرية أو “العطرشية” وإكليل الجبل، علماً أن هناك صعوبة في جمع كميات من هذه الزهور لاستعمالها في التقطير.

 

ماء الورد.. حاضر في الأطباق والحلويات

وتعد حرفة تقطير الورد أو الزّهر من أعرق الحرف التقليدية في مدن جزائرية عدة، منها تلمسان وقسنطينة وعنابة وميلة والبليدة التي يطلق عليه اسم مدينة الورود، والقصبة، وما زالت عائلات تحافظ على عادة تقطير الورد وتسويقه وبيعه، ولا تستغني العائلات في قسنطينة وميلة شرقي الجزائر عن ماء الورد التقليدي، خاصة أن الكثير من العائلات تستعمله كوسيلة لإضفاء نكهة ومذاق طيب للحلويات التقليدية مثل البقلاوة والمقروط، كما يستخدم في تزيين مجالس القهوة والشاي لدى قدوم الضيوف أو في الأعراس وحتى في الأيام العادية، وهو يوضع في أوانٍ نحاسية تسمى بـ”المرشّ” الذي يزيّن طاولات القهوة في المناسبات وعند استقبال الضيوف، كما يقدم هدية لمن يزور منطقة للمرة الأولى، أو لشخص عزيز يقيم حفلة زواج أو ختان.

وتحتفل مدن مختلفة بتجهيز العروس بأوانٍ نحاسية يكون من ضمنها المرشّ الذي تعبئه المرأة بماء الورد التقليدي لدى انتقالها حديثاً إلى بيت الزوجية، كما يبدأ استقبال عائلة العروس ودخولها بيت زوجها للمرة الأولى برشّ ماء الورد التقليدي كعربون محبة ونقاء وصفاء وتفاؤل بوصول الوافدة الجديدة على العائلة، بأمل أن تزهر حياتها الجديدة وتعيش أياماً حلوة بعطور مختلف الأزهار.

 

قسنطينة.. روايات عديدة حول أصول التقطير

وتختلف الروايات والقصص عن أصول التقطير، فيتحدث سكان مدينة قسنطينة الأصليين عن أن بدايات هذه العادة الربيعية أندلسية وانتشرت في بلاد المغرب مع دخول الأندلسيين، بينما تقول رواية أخرى أن أول شجرة ورد زرعت بقسنطينة قدمت كهدية من طرف صيني لعائلة قسنطينية من أصول عثمانية، تحديداً عام 1620 ميلادية، وزرعت في منطقة حامة بوزيان، أشهر منطقة تنتج زهور الورد والتي تعتبر المصدر الرئيس لجميع الحرفيين العاملين على حرفة التقطير واستخراج عطور وزيوت طبية طبيعية، بحيث أصبحت العملية عادة متوارثة عن الأجداد وتقليداً مباركاً يقام بمناسبة حلول فصل الربيع.

وتقول إحدى الحرفيات المتخصصة في التقطير وصناعة الحلويات التقليدية، إن التقطير يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعادات العائلة القسنطينية التي تقوم بتقطير الورد والزهر لاستعماله في صناعة الحلويات القسنطينية على غرار البقلاوة وطمينة اللوز والقطايف وشباح الصفرة، فضلاً عن حلوى طمينة البيضاء التي لا بد من صناعتها قبل الانطلاق في عملية التقطير، وتؤكد أن قارورات مياه التقطير لا بد من أن تغلق بإحكام وتوضع بعيداً من الضوء حتى لا تتغير تركيبتها ولونها الطبيعي، مشيرة إلى أن تقليد التقطير منتشر في المدينة ويستعمل أيضاً في أمور استشفائية عدة، إذ يتم حالياً تقطير الأعشاب العطرية مثل عشبة النعناع والزعتر وغيرها من الأعشاب العطرية الطبية، فتلجأ عائلات عدة إلى التداوي بالماء المقطر من أزهار أشجار الحمضيات، بخاصة النارنج أو البرتقال المر الذي تشتهر به منطقة الحامة بوزيان، وكذلك المقطر من أزهار الورد، بخاصة ذات اللون الوردي، بحيث يتم وضع ماء الورد داخل العين لعلاج بعض الالتهابات التي تصيب المقلة على غرار مرض الرمد، كما يستعمل ماء الزهر في خفض حرارة الجسم خلال الإصابات الجرثومية ونزلات البرد وحتى لفحات الشمس، إضافة إلى استعمالات في مجال التجميل وتنظيف البشرة.

ولا تخلو عملية التقطير من طقوس وعادات متوارثة مثل تغطية أوراق الورد والزهر بعد جمعها من الأشجار بقماش أبيض لمنع الحسد والعين، أو صنع الحلويات التقليدية من أولى قطرات ماء الزهور التي يتم استخلاصها مثل حلوى الطمينة البيضاء المصنوعة من السميد والزبدة والعسل، كذلك من بين العادات يعطر المنزل بمستخلص ماء الزهور المعروف محلياً باسم “رأس القطار” ويوضع في مختلف أركان البيت، ويستخدم البخور والعنبر، إلى جانب إشعال الشموع ووضع كمية من السكر على حواف الموقد الذي تتم عليه عملية التقطير باعتباره “فأل خير”.