الانضمام للمنظمة الفرنكوفونية يعد مخالفا للعقل والكيان الثقافي الجزائري
ثقافي

الانضمام للمنظمة الفرنكوفونية يعد مخالفا للعقل والكيان الثقافي الجزائري

استبعد الكاتب سمير قسيمي من خلال هذا الحوار الذي خص به “السلام اليوم” فكرة ان تكون هناك “حرب اللغات” ورحب بتبني نظرية “التعاطي مع جميع اللغات” بدون أي خلفية سياسية ولا غايات إيديولوجية، من باب الانفتاح على الآخر لا غير، وعلى اعتبار ان الفرنكوفونية كيان سياسي فكري دولى يجمع الحكومات والدول التي تقر بان الفرنسية لغتها الام، كان لزاما على الجزائر ألا تكون عضوا بها، كما أيد قرار رئيس الجمهورية في تعليم اللغة الإنجليزية بالطور الابتدائي واعتبره قرارا صائبا مبنيا على ملاحظات في أرض الواقع، وهو أن الإنجليزية هي لغة العلم والتكنولوجيا، التجارة، الاقتصاد والسياحة.

كيف للجزائر التي سجلت انتشارا واسعا في اللغة الفرنسية، الا تكون عضوا داخل المنظمة العالمية للفرنكوفونيين؟ ما هي أسباب الامتناع والرفض؟

علينا في البداية أن ندرك أن المنظمة العالمية للفرنكوفونية، ليست مجمعا لغويا أو علميا أو أكاديميا يعنى باللغة الفرنسية، بل كيان سياسي فكري دولي يجمع الحكومات والدول التي تعتبر الفرنسية لغتها الأولى أو لغتها الأمّ، أو على الأقل إذا لم تعتبرها كذلك، تكون دولا تعترف أن شريحة كبيرة من شعوبها تتحدث الفرنسية وتفكر بها، بل تؤطر سلوكها الاجتماعي والثقافي.

أعتقد أن هذا التعريف البسيط لهذه المنظمة يجعلنا نفهم السبب الذي يجعل الجزائر دولة لا تنتمي إلى هذا الكيان السياسي الثقافي، بل يكفي ليجعل أي تفكير في الانضمام إلى هذه المنظمة عملا مخالفا للعقل والمنطق وللكيان الثقافي للجزائر، بل ولسيادتها القائمة على استقلالها السياسي والثقافي الذي لا يمكن فيه استبدال الهوية الجزائرية القائمة على اللغتين العربية والأمازيغية المكرستين بالدستور الجزائري.

هل يمكننا القول بان الجزائر وجدت البديل في اللغة الانجليزية، وهو ما دفع بها إلى إدراجها هذه السنة للتعليم في الطور الابتدائي؟

بديل؟ هذه كلمة قوية تُوظَف في افتراض غير موجود تاريخيا وثقافيا. إن القول أن توجه التعليم الجزائري إلى تبني اللغة الإنجليزية كلغة أولى في اللغات الأجنبية، يفترض نوعا من الأفضلية بين اللغات، وهو تفكير عقيم لا يقوم على معرفة جادة بماهية اللغة وتوظيفاتها، كما يفترض أيضا وجود حرب خفية بين اللغات، وهو أمر غير جاد كذلك.

لكن الأخطر في تبني فكرة “البديل” هذه، هو أننا بقولنا بذلك نقرّ ضمنيا أن الفرنسية تحتل مساحة وجدانية وثقافية وسياسية واجتماعية في كياننا كدولة، ونحاول الآن بتبني الإنجليزية تغيير وضع ثقافي قائم.

في رأيي أن نكف عن الإيمان بنظرية “حرب اللغات” لأنها حرب غير موجودة، ونتبنى نظرية “التعاطي مع جميع اللغات” بدون أي خلفية سياسية ولا غايات إيديولوجية، بل نتبنى جميع اللغات الحية من باب الانفتاح على الآخر لا غير، فخصومتي التاريخية مع فرنسا الاستعمارية لا تجعلني أتبنى خصومة مع لغتها، وربط المسألتين ليس إلا تعبيرا بنحو ما عن عقدة نقص واعتراف بقصور، حاشى للجزائر كدولة بكيانها الهُوِياتيِّ الواضح أن تعترف بمثله.

هل يعني هذا، أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أصاب في طرحه، أم أن الوقت لا يزال مبكرا على ذلك؟

بشكل عام كل سياسة ثقافية أو تعليمية، تحتاج إلى الوقت الكافي لمعرفة صوابها من خطئها، لكن المسألة هنا ليس في تبني سياسة ما، بل في الخلفية الموجودة في تبني أي سياسة. وبحسب متابعتي للمسألة من خلال تصريحات الرئيس وحواراته الدورية، فيظهر لي أن لا خلفية سياسية في المسألة، بل إن قراره جاء بناء على ملاحظات في أرض الواقع، وهو أن الإنجليزية هي اللغة الأولى استعمالا في مجال التكنولوجيا والتجارة والاقتصاد والسياحة وغيرها، ومن الطبيعي أن تكون الأولى في المقررات الدراسية.

لا أعتقد أن الرئيس بقراره يعلن حربا ما على اللغة الفرنسية، لأنه يعلم بلا شك أن اللغات لا تحارب بنحو أكيد.

ما هي أهداف الفرنكوفونية الخفية والمعلنة ومخاطرها حسب منظوركم؟

هذا سؤال يدخل في نطاق نظرية المؤامرة، وهي نظرية تمثل أقصى ما بلغه الإنسان الحديث من وساوس وأمراض نفسية. ليس عليها الاجتهاد في البحث عن أعداء وهميين، بل فقط واجبنا التصدي للأعداء الحقيقيين، ذلك أنها منظمة لا ننتمي إليها ولا يمكن أن ننتمي إليها لأسباب موضوعية أشرت إليها في بداية هذا الحوار، لهذا أرى أن وجودها من عدمه لا يعنينا إلا من باب الاطلاع والمثاقفة. لقد رفضت الجزائر كدولة الانضمام إلى هذه المنظمة حتى في الفترة الذهبية للتيار الفرنكوفوني فما بالك الآن، وما حضور الجزائر في اجتماعاتها سابقا إلا بصفة مراقب لا غير.

في سياق آخر يجب أن نقرأ قراءة سليمة موقف الجزائر من فكرة الانضمام إلى هذا الكيان، رغم ما قد يجده البعض من مفارقة في إصرار دولة تعدّ ثالث ناطق بالفرنسية في العالم بعد فرنسا والكونغو، وهذه القراءة السليمة لا تقوم على “حقد ما” تجاه هذه اللغة لأسباب تاريخية، بل تقوم على رزانة عقلية تقول إن الهوية الجزائرية قائمة في أحد أركانها على اللغة، ومن ثمة لا يمكن خدش هذه الهوية بأي قرار سياسي يضر وإن افتراضا أو مستقبلا بهويتنا كجزائريين.. وكجزائريين نفتخر أننا نتحدث الفرنسية ونكتبها أفضل أحيانا من الفرنسيين، لكن لغتينا العربية والأمازيغية أكثر تغلغلا في ذواتنا وهويتنا، فاللغة ليست لسانا فقط، بل سلوك وطريقة تفكير، وسيأتي الوقت الذي نكون أيضا بارعين في الإنجليزية والإسبانية والألمانية وغيرها من لغات حية، من غير أن يرتب ذلك أي أثر على شخصيتنا وهويتنا.

ما هي افاق العلاقة بين الجزائر والمنظمة الفرنكوفونية في ظل ما بات يعرف بالمفهوم الجديد للفرنكوفونية بصفتها عامل للتقارب والتنمية المشتركة عوضا عن علاقة الهيمنة والخضوع؟

لنتفق على الدول تحكمها المصالح في علاقاتها مع بعض، ووحدها المصالح سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية ما يبرر أن تصرف لأية دولة، ولا أعتقد أن ثمة اختلاف في مسألة علاقة الجزائر والمنظمة الفرنكوفونية، كما أن التركيز على هذه المسألة قد يكون مبالغا فيه، فهذه المنظمة كأي تجمع حكومي ودولي آخر يخضع للسياسة الخارجية للجزائر المعروفة بتبنيها لمبادئ صارمة، ولا يخضع للأهواء والشعبوية.

حسب رأيكم لماذا غابت الجزائر عن القمة الفرنكوفونية التي اقيمت بالشقيقة تونس مؤخرا؟

الأمر واضح، الغياب لاسباب واقعية، الجزائر ليست عضو في المنظمة الفرنكفونية ودعوتها هي بصفة مراقب، أي أنها دعوة مجاملة، ومثل هذه الدعوات لا يشكل قبولها أو رفضها موقفا بحدّ ذاته، كما لا يرتب أي نتائج ولا يمكن استقراء أي شيء من عدم المشاركة كمراقب.

حسب اخر تصريحات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي تفيد بان اللغة الفرنسية تتراجع في منطقة المغرب العربي، ما هو السبب الحقيقي الذي لم يعلن عنه ماكرون حسبكم؟

اعتمد الرئيس الفرنسي في تصريحه على تقارير واحصاءات قديمة وواقعية قديمة، فأمر تراجع اللغة الفرنسية واقع منذ عقدين من الزمن على الأقل، ولهذه الظاهرة علاقة بالتحولات السياسية والثقافية للشعوب، وأعتقد أن المعهد الفرنسي ووزارة الثقافة الفرنسية أطلقا برامج كثيرة للحيلولة دون التراجع الملاحظ على استعمال اللغة الفرنسية، لعلّ اشهرها البرامج المعروفة المتعلقة بالإقامات الإبداعية والدراسية وأيضا المنح المعروضة مقابل مشاريع تخدم اللغة الفرنسية في أكثر من مجال، كما قانون الكتاب الفرنسي والتسهيلات المتعلقة بكل ما يرتبط باللغة الفرنسية سعي حثيث لتدارك هذا التراجع.

هنا لا بدّ أن أشير إلى النظام المعقد المعتمد عليه، ولا يقاطع الجهد الثقافي والسياسي الذي تمّ طرحه حماية للثقافة واللغة الفرنسيتين، والذي يسعى إلى إخراج اللغة الفرنسية من إطار اللغة الصرف إلى “سلوك حياة”.. نظام يجب دراسته برويّة وتركيز، خاصة من قبل المؤسسة الثقافية في الجزائر المتمثلة في وزارة الثقافة.

هل للزيارات المتكررة للرئيس ماكرون ووزرائه للجزائر علاقة بما ذكرته ضمنيا؟

بلا شك، بالإضافة إلى مسائل أخرى.

هل الفرنكوفونية تعد أيضا فضاء اقتصاديا من شأنه أن يخدم مصالح الجزائر؟

وحدها المصالح تحدد شكل ونوع وصفة العلاقات بين الدول، لهذا لا يمكن تصور أن الجزائر ترفض أي عرض قد ترى أنه يخدم مصالحها.

ما هي الرهانات الجيوسياسية للفرنكوفونية في الجزائر؟

يحتاج هذا السؤال إلى مساحة أكبر من أي حوار، فالرهانات لا تتحدد وفق وجهة نظر واحدة وإن كانت وجهة نظري، بل عبر دراسات متخصصة وتأمل دقيق.

كيف ينظر سمير إلى الأدب الفرنكوفوني الجزائري؟

إن كان المقصود هو الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية، فهو بلا شك أدب عظيم بلغ بعضه مصاف العالمية ورشح بعضه لجوائز كبيرة كجائزة نوبل، وهو بلا شك أدب يتفوق في جودته وأسمائه على الكثير من الأدب الجزائري المكتوب بالعربية، إنه لفخر لأي كان أن يقول أنه من أدب كتب فيه: محمد ديب، مالك حداد، مولود فرعون، مولود معمري، كاتب ياسين، رشيد بوجدرة، أمين الزاوي، أسيا جبار، نادية قندور، الطاوس عميروس، يوسف سبتي، بوعلام صنصال والكثير الكثير من عمالقة السرد الجزائري والعالمي أيضا.

لقد تعاقدت في السنة الماضية مع دار نشر فرنسية وقد صدرت لك روايتان بالفرنسية .. عما يبحث سمير بهذه الترجمات؟

صحيح، تعاقدت عام 2017 مع دار سوي الفرنسية الشهيرة وصدر لي عنها الترجمة الفرنسية لروايتي “حب في خريف مائل”، وقد صدر بعنوان “الحب في المنعطف”. وفي عام 2020 تعاقدت مع دار أكت سود الفرنسية وصدر لي عنها ترجمة “يوم رائع للموت” ويصدر لي خلال السنة المقبلة ترجمة لروايتي “الحماقة كما لم يروها أحد”، وكلاهما ضمن سلسلة سندباد التي يشرف عليها الأستاذ فاروق مردم بك. ولحسن الحظ لقيت هذه الترجمات قبولا جماهيريا محترما ونقديا كبيرا في أهم المنابر النقدية الناطقة بالفرنسية، كما تمكنت روايتي “يوم رائع للموت” من الوصول إلى اللائحة القصيرة لجائزة لاغدير الفرنسية المرموقة.

أعتقد أن نجاح أعمالي المترجمة، مردّه قوة رواياتي وخوضها في الراهن عبر سرد حقيقي وممتع وقوي، وهي مجمل الملاحظات التي أبداها النقد الفرنسي بخصوصها، وهي الملاحظات ذاتها التي جعلت دور نشر فرنسية تعدّ الكبرى في عالم النشر في فرنسا تهتم بتجربتي ومن ثمة التعاقد معي.

الترجمة إلى أي لغة بما فيها الفرنسية، فرصة لضمان انتشار أكبر، خاصة لدى القارئ الآخر، وفرصة كذلك تعطى للعمل الإبداعي للاستمرار في التواجد وقياس جودته وفق معايير غير تلك المعتمدة عربيا.