قصــــــــة: نــــــــدم
ثقافي

قصــــــــة: نــــــــدم

زخات مطرية تصفع زجاج سيارته، وتحجب عنه الرؤيا. ماسحا الزجاج يترنحان يميلا وشاملا، لمنع المطر من حجب الرؤيا. كان المطر يهطل بغزارة وراح يصفع الزجاج بخيوطه مطرية، كأنها دموع تنزل من عيون السماء. واصل السير على الرغم من صعوبة الرؤيا، كانت لديه مهمة وعليه أن ينهيها.

 ل.أ

لم يتوقع أن يكون اليوم ممطرا على هذا النحو. الأرصاد الجوية، تحدثت عن سماء صافية إلى غائمة. لكنها لم تتوقع المطر. هل كانت السماء غاضبة من القرار الذي اتخذه، أم أن السماء براء مما يتخذه الإنسان من قرارات عن وعي وسبق إصرار.

في المقعد الخلفي للسيارة، كانت أمه التي تجاوزت عقدها الثامن تجلس صامتة، لا تعرف إلى أين يأخذها ابنها. ألقى إلى المرآة أمامه فرآها بوجهها الذي رسمت عليه تجاعيد الزمن خدودا غائرة، ترتدي جلبابا بنيا، وتضع يدا على يد كأنها جالسة كعادتها في الصالون.

نعم هرمت أمه وطفقت ذاكرتها تخونها بين الفينة والأخرى. العضلة الوحيدة التي ظلت شابة في جسمها ولم تشخ هو لسانها. كانت طلباتها لا تنتهي ولا تكف عن الشكوى ورفع عقيرتها تسأل عن زوجته زينب وعن الأولاد، بل وتسأل عن كل ما لا يخطر ببالها.

كان ابن أمه الوحيد، وحين توفي والده اضطر إلى استقدامها إلى بيته، بعد أن تقدمت في السن. حاولت زوجته أن تتقبل واقع أن حماتها لا ملجأ لها سوى ابنها، ولكنها مع مرور الوقت بدأ صبرها ينفد، ولم تعد تستطيع تتحمل حماتها التي أصبحت عبأ ثقيلا عليها.

وكان غضب زينب يبلغ مداه من أم زوجها، حين تأتي إحدى صديقاتها لزيارتها، فتمنعهما الحاجة بطلباتها التي لا تنتهي من أخذ راحتهما في الحديث.

ما أن تغادر الصديقة، حتى تصب زينب جام غضبها على حماتها، تسألها هذه الأخيرة ببراءة طفل:

-لماذا تصرخين حبيبتي، هل أغضبك أحد أبنائك، أم أن ابني هو من فعل. لا تقلقي عند عودته سأؤدبه كما كنت أفعل حين كان طفلا صغيرا.

يزداد جنون زينب، وهي تسمع من حماتها مثل هذا الرد. تشكو لزوجها كلما عاد مما تلاقيه من أمه. يحاول جاهدا أن يهدئ من غضبها ويشرح لها أنه لا حل لهما سوى التعايش مع أمه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

زينب كانت تعلم، أن ما يقوله زوجها عين العقل، فهو وحيدها، ومن الواجب عليه أن يتكفل بها إلى أن يحين أجلها. لكنها اعترفت له كما اعترفت من قبل لنفسها أنها لم تعد تستطيع العيش مع حماتها تحت نفس السقف. وحين طفح بها الكيل، أخبرته أنه عليه أن يختار بين أمه وبينها. سألها :

-ما العمل، هل لديك حل؟

قالت دون تردد:

-أرى أن الحل الوحيد هو أن تأخذها إلى دار العجزة.

ساد الصمت توقع أن تقترح زوجته هكذا اقتراح. حاول أن يقنعها أنها ستعرضهما معا إلى انتقاد الجيران قبل الأقارب. ردت بحزم أنها لا تأبه للقيل والقال، وإذا لم يفعل ما اقترحت عليه، فستغادر البيت رفقة الأولاد لتتركه مع أمه.

أيقن أن زوجته جادة في قرارها، وما كان عليه سوى الموافقة. وها هو الآن في سيارته يتجه بها إلى تلك المؤسسة الاجتماعية التي ترعى المسنين. قطع صوتها عليه حبل تفكيره، وهي تقول:

-أغلق زجاج النافذة بني، ستبتل، وقد تصاب بنزلة برد.

قولها جعله يشعر وكأن خازوقا اخترق فؤاده. ها هي أمه لا زالت تخاف عليه من الأذى، وهي لا تعلم إلى أين يقودها فلذة كبدها. شعر بالدموع تتدفق من عينيه وتنساب على خديه. تمنى لو كان بإمكانه أن يعيدها إلى البيت مرة أخرى، لكنه كان على يقين أن زوجته ستنفذ تحذيرها.

بلغ بناية دار العجزة. استقبله المشرف على المؤسسة. وبعد أن أنهى الإجراءات، عاد إلى أمه عانقها، أمسكت وجهه بين يديها حين سمعت نشيج بكائه، وقالت :

-لماذا تبكي بني .

أجاب:

– لا شيء لا شيء أمي .

تقدمت منها فتاة ترتدي وزرة بيضاء من عاملات المؤسسة. لم تفهم الأم إلى أين تقودها الفتاة. التفتت إلى ابنها وقالت:

-هل جئت بي ليكشف عني الطبيب. أنا بصحة جيدة لا تقلق علي.

هرع إلى الباب وهو يبكي، كأنه يفر من جريمة ارتكبها ويخشى أن يقبض عليه متلبسا. حين رأته زوجته يدخل وكانت جالسة رفقة طفليها سعيد زليليي. هرعت إليه عانقته وقد شعرت بما يجيش في دواخله من ألم. حاولت أن تهدئه، ساد صمت رصاصي في الصالون. فجأة سأل سعيد الذي لم يتجاوز عقد الأول بعد والده:

-أين جدتي يا أبي؟.

لم يجبه أي من والديه. أعاد السؤال. أجابته أمه بغضب :

-أخذها إلى دار العجزة.

ساد الصمت هنيهة، قطعه سعيد قائلا:

-حين تصبحين أمي في مثل سن جدتي هل علي أن آخذك انا أيضا إلى دار العجزة.

نظرت زينب إلى زوجها وقد أذهلهما ما سمعا من ابنهما. التقت عيونهما، وتاها معا في يم من الأسئلة الوجلة. انفجرت زينب باكية. زاد بكاء زوجها. جلسا على الأريكة بقرب بعضهما. مسحت زينب عينيها بردن ثوبها، ثم قالت لزوجها:

-عليك أن تعيدها.

نظر إليها مستغربا، ثم قال :

-هل أنت جادة؟

-كل الجد، أعدها.. أعدها. لا أريد لابني أن يحاسبنا يوما على ما فعلنا بجدته.

تٌــرآتٌـــيَلُ عآشُــق

أَنَا عَائِدٌ مِنْ رَمِيمِ زَمَانِي

أُلَمْلِمُ مِنِّي بَقَايَا

رُفَاتِي

لِأَخْرُجَ مِنِّي بِعُمْرٍ جَدِيدٍ

أُكَفْكِفُ فِيهِ دُمُوعَ

نُعَاتِي

وَأَغْسِلُ وَجْهَ الرِّيَاحِ بِدَمْعِي

عَسَاهَا تُطَهِّرُ قَلْبَ

الحَيَاةِ

ليُضْمَرَ مَا كَانَ جُرْحاً حَزِيناً

وَيَنْدَاحَ شَوْقٌ مِنَ النَّــأْيِ

آتِ

سيُقْبِلُ مَنْ كَانَ حُلْمًا بَعِيدًا

لِيَزْرَعَ حُبًّا بِصَدْرِ

الفَلَاةِ

مازال لي خافق في الحب يضنيني

يحنُّ  ….  ينشرُ ذِكرانا ليطويني

لا العين زاهية.. لا الثغر مبتسم

ولا دمي يَصْدُقُ الرؤيا ويهديني

ماذا أرى غير أحلام مبعثرة

على هشيم الرؤى تقتات من طيني

رؤى تهشّ على الذكرى لتبعدها

والشوق يزفرُ في طيّات تكويني

محمد مشلوف