الحراثة.. تراث زراعي يمثل عصب موسم الحرث بمنطقة القبائل
وطني

الحراثة.. تراث زراعي يمثل عصب موسم الحرث بمنطقة القبائل

 تنمو في أعماق جبال ولاية تيزي وزو، تقاليد زراعية قديمة تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة سكان هذه المنطقة، إنها تقاليد ترتبط بالحرث والزراعة، وتروي قصة علاقة عميقة بين الإنسان والأرض، وقبل العصر الحديث للزراعة الآلية والجرارات الضخمة، كان الحرث في منطقة القبائل يعتمد على الأدوات البدائية والطرق التقليدية، وكان الفلاحون يستخدمون الثيران والحمير كوسائل للحرث، وهذا العمل كان يتطلب جهدًا كبيرًا وتعبًا، التي لاتزال تحافظ عليها المنطقة.

كانت الثيران والحمير هي وسيلة الجر والمحاريث الخشبية التقليدية هي أدواتهم الأساسية، فكانت هذه العملية تتطلب مجهودًا كبيرًا من الفلاحين البسطاء، ورغم التعب إلا أنهم كانوا يعيشون مشاعر الحب والسعادة عندما يحرثون ويزرعون أراضيهم، فالزراعة كانت مصدرًا أساسيًا لسد احتياجاتهم والمجتمع، وتعتبر منطقة القبائل بتيزي وزو منطقة ذات تاريخ زراعي عريق، حيث كان الحرث يمثل جزءًا أساسيًا من حياة السكان في هذه المنطقة؛ فعندما يقترب موسم الزراعة، يبدأ المزارعون بالاستعداد لبداية موسم الحرث، من خلال جمع الثيران والحمير والمحاريث الخشبية التقليدية التي تصنع يدوياً من الخشب بالكامل، وتتضمن سككًا حديدية تُعرف بـ “تاكرسا” تستخدم لقلب التربة وتجهيزها للزراعة.

وبجانب جهود المزارعين، تقوم النساء في المنطقة بتجهيز المأكولات التقليدية التي تصاحب بداية الموسم الزراعي، وهي عبارة عن خليط من طحين وزيت زيتون أو زبدة وبيض وقليل من ماء الزهر يترك مدة فوق النار إلى أن تصدر منه رائحة طيبة يشبه الكسكسي ويطلق عليها اسم “الطمين” وفي بعض المناطق “أضمين” وتخلط بعدها بكمية كبيرة من الرمان الحلو وتوضع في وعاء كبير يأخذه الطفل أو الشاب الذي يشارك لأول مرة في عملية الحرث إلى الحقل.

 مأكولات خاصة وأغاني تصاحب موسم الحرث

ويبدأ اليوم الأول من الموسم بشق خط واحد ثم يتوقف ليلتحق الجميع حول الإناء ويتناولون الوجبة الساخنة وسط أجواء باردة في معظم الأحيان، ومنها تنطلق العملية، وفي المساء، تحضر العائلات أطباقا شهية من لحم الدجاج غالبا ما تكون كسكس، ويخرج الرجال بعد العشاء فيخلو البيت للنسوة والبنات للغناء والرقص حتى ساعة متأخرة من الليل، فيما ينطلق الرجال صوب الحقول لبدء العمل وكلهم أمل بوفرة المحصول؛ ويُطلق على اليوم الذي يبدأ فيه الحرث في منطقة القبائل بـ”السهالة” وهو تعبير يحمل أملًا بتسهيل الأمور ونجاح الموسم الزراعي؛ وإلى يومنا هذا، لا تزال بعض القرى في منطقة القبائل تحتفظ بتقنيات الحرث القديمة في الأراضي التي تعتبر صعبة الحرث بواسطة الجرارات الحديثة.

ويعد المحراث واحد من أهم الأدوات المستخدمة في عملية الحرث، حيث يتم استخدامه ليعمل على تقليب التربة وتفتيتها وتحضيرها لنثر البذور، ويعد أهم جزء في المحراث هو النصل الفولاذي الذي يكون حجمه كبيراً ووزنه ثقيلاً جداً، حيث يعمل هذا النصل على إحداث خدش كبير في الأرض ويتم جره بعدة طرق اختلفت من زمن إلى زمن، حيث كان قديماً يُجر بواسطة الحيوانات، أما الآن فقد أصبحت تستخدم آلات ميكانيكية كبيرة معدة لحرث الأرض.

 المحراث والأدوات التقليدية حاضرة لدى الفلاحين

وفي هذا الإطار، يقول أحمد، وهو أحد المزارعين القبائل: ” أنا أتذكر عندما كنت طفلاً، كنت أشاهد جدّي ووالدي يحرثان الأرض باستخدام الحمير والمحاريث الخشبية، كانت تلك أوقاتًا جميلة تعكس تمسكنا بتراثنا الزراعي القديم، فعندما يأتي موسم الحرث، يجتمع الأهل في القرية ونحتفل بالسهالة، ما يجعل تحضير الوجبات التقليدية والرقص والأغاني جزء من هذا اليوم الخاص.”

من جهته، يفيد يوسف: “لا يزال لدينا حقول تحرث بالطرق التقليدية، فلا شيء يضاهي الشعور بالوصول إلى الجذور والعمل مع الثيران والمحاريث في الأرض، ورغم كل التطورات في مجال الزراعة، إلا أنني فخور بأن أسرتي تحتفظ بتقاليد الحرث القديمة، إنها طريقة للبقاء متصلين بتاريخنا وتراثنا، فالحرث بالطرق التقليدية قد يكون متعبًا، إلا أنه يعكس تفانينا في الزراعة والاحتفاظ بتراثنا، إنه جزء لا يتجزأ من هويتنا.”؛ تقول فاطمة، وهي إحدى القرويات: “السهالة هي أمسية جميلة ننتظرها بشغف، إنها ليست مجرد بداية لموسم الزراعة بل أيضًا احتفال بالتقاليد والروح المجتمعية، وهي وقت لنشعر بالفرح والأمل، ونأمل دائمًا في موسم زراعي مزدهر وغني بالمحاصيل، إنني ممتنة لأجدادنا الذين علمونا كيف نحافظ على الأرض ونستخدم الموارد بحكمة، فالحرث القديم يذكرنا بأهمية الاستدامة.”

بينما تصرح لطيفة: “أتذكر عندما كنت طفلة، كنت أساعد والدي في تحضير وجبة الطمين والمشاركة في الاحتفالات، إنها ذكريات جميلة تجمع بين العائلة والأصدقاء.”

طبيب خالدة